فصل: فَصْل فيما يسلي ويسهل المصائب والشدائد البدنية والمالية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فيما يسلي ويسهل المصائب والشدائد البدنية والمالية:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن لتسهيل المصائب والشدائد البدنية والمالية أسباب إِذَا قارنت حزمًا وصادقت عزمًا هان وقعها، وقل تأثيرها على الدين والْقَلْب والبدن، بأذن الله تَعَالَى.
فأَوَّلاً الآيات وَالأَحَادِيث المتقدمة التي فيها مدح الصابرين وبشارتهم ووعدهم بالجزاء الحسن ومن ذَلِكَ أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة فِي الآخِرَة وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر من عكس ذَلِكَ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «حفت الْجَنَّة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»، وكَذَلِكَ قوله فِي الصحيح: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من أَهْل النار فيصبغ فِي النار صبغة، ثُمَّ يقَالَ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب، ويؤتى بأشد النَّاس بؤسًا فِي الدُّنْيَا من أَهْل الْجَنَّة فيصبغ فِي الْجَنَّة صبغة فيقَالَ لَهُ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب» الْحَدِيث.
ومن ذَلِكَ استشعار النفس بما تعلمه من نزول الْفَنَاء وتقضي المسار، وأن لها آجالاً منصرمةٌ ومددًا منقضيةً، إذ لَيْسَ للدنيا حالٌ تدوم ولا لمخلوق عَلَيْهَا بقاء كما قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}.
بَنُو الوَقْتِ مِنْ فَجَعَاتِهِ فِي تَمَزُّقٍ ** فَكُلَهُمْ يَغْدُو بِشَلْوٍ مُقَدَّدِ

وَإِنَّي رَأَيْتُ الوَقْتَ جَمًّا خُطُوبُهُ ** وَإِنْ لَمْ يُرَوْعْ حَادِث فكَأَنْ قَد

وروى ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ما مثلي ومثل الدُّنْيَا إلا كمثل راكب مال إِلَى ظِلّ شجرة فِي يوم صائف ثُمَّ راح وتركها».
ومنها أن يتصور انحلال الشدائد وانكشاف الهموم وأن الله قدرها فأوقات لا تنصرم قبلها ولا تستديم بعدها فلا تقصر تلك الأوقات بجزع ولا تطول بصبر، وأن كُلّ يوم يمر بها يذهب مَنْهَا بشطر ويأخذ مَنْهَا بنصيب حَتَّى تنجلي وتنفرج ويزول ما كَانَ من المكاره والخطوب.
وقَدْ قص الله عَلَيْنَا فِي كتابه قصصًا تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم مع إغراق سائر أهل الأرض.
وكما قص نجاة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام من النار حين ألقاه المشركون فِي النار وأنه جعلها بردًا وسلامًا، وكما قص قصة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام مَعَ ولده الَّذِي أمر بذبحة، ثُمَّ فداه الله بذبح عَظِيم.
وكما قص قصة مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام مَعَ أمه لما ألقته فِي اليم حَتَّى التقطه آل فرعون، وقصته مَعَ فرعون لما نجى الله سُبْحَانَهُ مُوَسى وأغرق عدوه فرعون وقَوْمه.
وكما قص قصة أيوب ويونس ويعقوب، ويوسف عَلَيْهمْ السَّلام قصة قوم يونس لما آمنوا، وكما قص قصص مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه بإنجائه مِنْهُمْ فِي عدة مواطن، مثل قصته فِي الغار، وقصة يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين.
وكما قص الله قصة عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأرضاها فِي حديث الإفك وبرأها الله مِمَّا رميت به، وقصة الثلاثة الَّذِينَ خلفوا حَتَّى إِذَا ضاقت عَلَيْهمْ الأَرْض بما رحبت، وضاقت عَلَيْهمْ أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثُمَّ تاب عَلَيْهمْ ليتوبوا.
وَفِي السُنَّة من هَذَا المعنى شَيْءٌ كثير مثل قصة الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار فانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فدعوا الله بأَعْمَالُهُمْ الصَّالِحَة، ففرج الله عنهم، ومثل قصة إبراهيم وسارة مَعَ الجبار الَّذِي طلبها من إبراهيم ورد الله كيد الفاجر.
وَإِذَا اشتد الكرب وعظم الخطب كَانَ الفرج قريبًا فِي الغالب بإذن الله قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا}، وقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
وأخبر عَنْ يعقوب أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقَالَ لإخوته: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، وقَالَ: عَسَى الله إن يأتيني بِهُمْ جميعًا، ومن لطائف اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إِذَا اشتد، وعظم وتناهى، وُجِدَ الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق.
كما قَالَ الإِمَام أحمد واستدل عَلَيْهِ بقول إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما عرض لَهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام فِي الهواء، وقَالَ: ألك حَاجَة، فقَالَ: أما أليك فلا وإما إِلَى الله فبلَى والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج.
فإن الله يكفي من توكل عَلَيْهِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ومنها أن الْعَبْد إِذَا اشتد عَلَيْهِ الكرب فإنه يحتاج حينئذ إِلَى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه ومنها أن المُؤْمِن إِذَا استبطأ الفرج وآيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر لَهُ أثر الإجابة رجع على نَفْسهُ باللأَئِمَّة وَيَقُولُ لها إنما أتيت من قبلك ولو كَانَ فيك خيرًا لأجبت وَهَذَا اللوم أحب إِلَى الله من كثير من الطاعات. اهـ.
وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ تَنْقَطِعُ ** وَخَلّ عَنْكَ عَنَانَ يَنْدَفِعُ

فَكُلّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجُ ** وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا ضَاق يَتَّسِعُ

إِنَّ البَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ** فَاللهُ يُفَرِّجَهُ وَسَوْفَ يَنْقَطِعُ

آخر:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ ** وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ

وَأَوْطَأَتْ الْمَكَارِهْ وَاطْمَأَنَّتْ ** وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوب

وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ** وَلا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ

أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٍ ** يَمُنُّ بِهِ اللطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ

وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ** فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرِيبُ

آخر:
إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا ** أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب

وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا ** يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ

ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ ** فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ

آخر:
وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ ** يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ ** وَفَرَّجَ لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ

وَكَمْ هَمٍّ تُسَاءُ بِهِ صَبَاحًا ** فَتَعْقُبُهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِي

إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الأَسْبَابُ يَوْمًا ** فَثِقْ بِالْوَاحِدِ الأَحَدِ الْعَلِيّ

وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
فَصْل:
ومنها أن يتسلَّى بذوِي الغير، ويتسلَّى بأولى العبر، ويعلم أنهم الأكثرون عددًا والأسرعون مددًا، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزاء إِلَى ما يخفف حزنه ويقلل هلعه. وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الصقوا بذوي الغير تتسع قلوبكم. أي الَّذِينَ تنتقل أحوالهم إذ يتسلى مرقع الخف بالَّذِي مخرق خفه، ويتسلى مخرق الخف بالحاسر الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وتسلى الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء بالأعرج، والأعرج بالأقطع، وهكَذَا كُلّ يتسلى بمن هُوَ أعظم منه فِي المصيبة.
والدُّنْيَا إِذَا تأملها اللبيب وجدها كُلّهَا متاعب وبلايا ومصائب، وقَدْ أحاطت بِالنَّاسِ من رؤوسهم إِلَى أقدامهم، فتَرَى مصابًا بالعلل والأسقام كُلَّما برئ من علة أصابته علة أخرى، كُلَّما شفاه الله من مرض جاءه مرض آخر، وتجد هَذَا مصابًا بعقوق الأبناء لأنهم خرجوا عَنْ الصراط المستقيم، وسلكوا طَرِيق الشيطان، وتجد الآخر مصابًا بسوء خلق زوجته فهو معها دَائِمًا فِي شقاق وعناء ونشوز ولجاج.
وتجد مصابًا بالفقر المدقع وَهَذَا تجده مصابًا بالعقم، وَهَذَا تجده مصابًا بكساد تجارته، وَهَذَا مصابًا ببوار زراعته، أَوْ صناعته، وَهَذَا مصابًا بجيران سوء يذيعون ما يسوءُ ويكتمون الْخَيْر، وتجده معهم دَائِمًا فِي لجاج، وَهَذَا تجده مَعَ أقربائه فِي شقاق وقطيعة، وشكاوى وتردد بين المحاكم والمناطق، وَهَذَا تجدع مَعَ شركائه أَوْ مَعَ أرحامه كَذَلِكَ فِي نكد.
وتَرَى هَذَا لا حظ لَهُ فِي الحياة يجد ويجتهد ولا ينال مناه ويشقى ويتعب ولا يحصل على مبتغاه، وَهَذَا تجده مسلطين عَلَيْهِ والديه أَوْ أحدهما وَهَذَا تجده مظلومًا وَهَذَا مسجونًا، وهكَذَا إِلَى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عَنْدَ حد ولا يحصيها عد، ولَقَدْ صدق من قَالَ:
كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ يَشْكُو دَهْرَهُ ** لَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ

آخر:
أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقْمُ حَتَّى أَلِفْتُهُ ** وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ

آخر:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الشَّرَّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ** وَأَسْلَمَنِي طُولُ البَلاءِ إِلَى الصَّبْرِ

وَوَسَّعَ صَدْرِي لَلأَذَى كَثْرَةُ الأَذَى ** وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يضيق به صَدْرِي

إِذَا أَنَا لِمْ أَقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ كُلَّمَا ** تَكَرَّهْتُهُ قَدْ طَالَ عُتْبِي عَلَى الدَّهْرِ

آخر:
رُوِّعْتُ بَالْبَيْنِ حَتَّى مَا أَرَاعَ لَهُ ** وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِ

آخر:
تَعَزَّ بِحِسْنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ هَالِكِ ** فَفِي الصَّبْرِ مَسْلاةُ الْهُمُوم اللوَازِمِ

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْبِرْ عَزَاءً وَحِسْبَةً ** سَلَوْتَ كَمَا تَسْلُو قُلُوبُ الْبَهَائِمِ

آخر:
ولما رَأَيْتُ الوَقْتَ يُؤْذِنُ صَرْفُهُ ** بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَبَائِبِ

رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَوَطَّنْتُهَا عَلَى ** رُكُوبِ جَمِيل الصَّبْرِ عَنْدَ النَّوَائِبِ

وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ** فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِب

وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ** فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ

فَخُذْ خِلْسَةً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ تَعِيشُهُ ** وَكُنْ حَذِرًا مِنْ كَآمِنَاتِ الْعَوَاقِبِ

آخر:
وَمَا خَيْرَ عَيْشُ نِصْفُهُ سِنَةُ الْكَرَى ** وَنِصَفٌ بِهِ نَعْتَلُ أَوْ نَتَوَجَّعُ

مَعَ الوَقْتِ يَمْضِي بُؤْسُهُ وَنَعِيمُهُ ** كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالوَقْتُ عُمْرُكَ أَجْمَعُ

آخر:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ** صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ

وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضَدَّ طِبَاعِهَا ** مُتَطَلِّبُ فِي النَّارِ جَذْوَةَ نَارِ

وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ** تَبْني الرَّجَاءَ عَلَى شَفِِيرٍ هَارٍ

آخر:
وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ ** وَلا أَعْلَمَتْنِي غَيْرَ مَا الْقَلْبِ عَالِمُهُ

آخر:
وَهَبْنِي مَلَكْتُ الأَرْضَ طُرَّا وَنِلْتُ مَا ** أُنِيلَ ابْنُ دَاودٍ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ

أَلَسْتُ أَخَلِّيهِ وَأُمْسِي مُسَلَّمًا ** بِرَغْمِي إِلَى الأَهْوَالِ فِي مَنْزِلٍ ضَنْكِ

آخر:
مَتَى تَسْتَزِدْ فَضْلاً مِنَ الْعُمْرِ تَغْتَرِفْ ** بِسِجِلَّيْكَ مِنْ أَرْيِ الْخُطُوبِ وَصَابِهَا

يُسَرُّ بِعُمْرَانِ الدِّيَارِ مُظَلَّلٌ ** وَعُمْرَانُهَا يَدْنُوهُ بِهَا مِنْ خَرَابِهَا

وَلَمْ ارْتَضِ الدُّنْيَا أَوَانَ مَجِيئَهَا ** فَكَيْفَ أَرْتَضِائيها أَوْانَ ذَهَابِهَا

آخر:
لَمْ يَبْقَ في الْعَيْشِ غَيْرَ الْبُؤْسِ وَالنَّكَدِ ** فَاهْرَبْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ كَمَدِ

مَلأَتَ يَا دَهْرُ عَيْنِي مِنْ مَكَارِهِهَا ** يَا دَهْرُ حَسْبُكَ قَدْ أَسْرَفْتَ فَاقْتَصِدْ

قَالَ ابن الجوزى: ولولا الدُّنْيَا دارُ ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار ولم يضق العيش فيها على الأَنْبِيَاء والأخيار فآدم يعاني المحن إِلَى أن خَرَجَ من الدُّنْيَا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حَتَّى ذهب بصره، ومُوَسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن. وعيسى بن مريم لا مأوى لَهُ إلا البراري فِي العيش الضنك ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يصابر الفقر وقتل عمه حمزة، وَهُوَ من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عَنْهُ، وقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن وجنة الكافر». فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها وقَالَ: رَأَيْتُ جمهور النَّاس إِذَا طرقهم المرض أَوْ غيره من المصائب اشتغلوا تَارَّة بالجزع والشكوى، وتَارَّة بالتداوي، إِلَى أن يشتد عَلَيْهمْ فيشغلهم اشتداده عَنْ الالتفات إِلَى المصالح، من وصية أَوْ فعل خَيْر أَوْ تأهب للموت. فكم ممن لَهُ ذنوب لا يتوب مَنْهَا أَوْ عنده ودائع لا يردها، أَوْ عَلَيْهِ دين أَوْ زكاة أَوْ فِي ذمته ظلامة لا يخطر لَهُ تداركها، وإنما حزنه على فراق الدُّنْيَا إِذَا لا هم لَهُ سواها وَرُبَّمَا أفاق وأوصى بجور... انتهى كلامه.
لَحَى اللهُ دُنْيَا لا تَكُونُ مَطِيَّةً ** إِلَى دَارِكَ الأُخْرَى تَزُمَّ وَتَرْكَبُ

عَجِبْتُ لَمَنْ يَرْجو الرِّضَا وَهُوَ مُهْمِلٌ ** وَتَسْوِِيفُنَا مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَعْجَبُ

وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلا مَرَاحِلُ ** وَأَجْدَر أبِهَا تُقْضَى قَرِيبًا وَتَنضِبُ

إِذَا كانَا الأَنْفَاسُ لِلْعُمْرِ كَالْخُطَا ** فَإِنَّ الْمَدَى أَدْنَى مَنَالاً وَأَقْرَبُ

وقَالَ بَعْضهمْ: إن المرء إِذَا طرقه عما يتحيف صبره ويضيق صدره يعود إِلَى علمه بالدُّنْيَا كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة وابتدأت للنفاد وشفع كونها للخراب، وأن الثاوي فيها راحل، والأَيَّامُ فيها مراحل موهوبها مسلوب وان أرخى إِلَى مهل، وممنوحها محروم وإن أرخى إِلَى أجل ولو خلد من سبق لما وسعت الأَرْض ولِذَلِكَ جعلت الدُّنْيَا دار قلعة ومحل نجعة.
كم رأينا من أناس هلكوا ** وبكى أحبابهم ثُمَّ بُكُوا

تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ** وَدَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا

كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سَوَقَةَ ** وَرَأَيْنَا سَوَقَةً قّدْ مَلَكُوا

هَذَا حُكْمٌ مِنْ حَكِيمٍ قَادِرٍ ** سَلَّمَ الأَمْرِ لِمَنْ أَجَرْى الْفَلَكُ

لا تَكُنْ مِمَّنْ يُقَلِّدُ مُلْحِدًا ** كَمْ جَهُولٍ بِاعْتِرَاضَاتٍ هَلَكَ

آخر:
اطِل جَفْوَةَ الدُّنْيَا وَدَعْ عَنْكَ شَأْنَهَا ** فَمَا الغَافِلُ الْمَغْرُورُ فِيهَا بِعَاقِلٍ

وَلَيْسَ الأَمَانِي لِلْبَقَاءِ وَإِنْ جَرَتْ ** بِهَا عَادَةٌ إِلا تَعَالِيلُ بِاطِلِ

يُسَارُ بِنَا نَحْوَ الْمَنُونِ وَإِنَّنَا ** لَنُسْعَفُ فِي الدُّنْيَا بِطَيِّ الْمَرَاحِلِ

غَفَلْنَا عَنْ الأَيَّامِ أَطْوَلَ غَفْلَةٍ ** وَمَا حُوبُهَا الْمَجْنِيُّ مِنَا بغَافِل

آخر:
بِرُوحِي أُنَاسًا قَبْلَنَا قَدْ تَقَدَّمُوا ** وَنَادُوا بِنَا لَوْ أَنَّنَا نَسْمَعُ النِّدَا

وَسَارَتْ بِهِمْ سَيْرَ المَطِيِّ نُعُوشُهمْ ** وَبَعْضُ َأِنينِ الْقَادِمِينَ لَهُمْ حُدَا

وَأَمْسُوا عَلَى الْبِيْدَاءِ يَنْتَظِرُونَنَا ** إِلَى سَفَر يَقْضِي بَأَنْ نَتَزَوَّدَا

فَرِيدُونَ فِي أَجْدَاثِهِمْ بِفِعَالِهِمْ ** وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ جُنْدًا مُجَنَّدَا

تَسَاوَوْا عِدىً تَحْتَ الثُّرَى وَأَحِبَّةً ** فَلا فَرْقَ مَا بَينَ الأَحِبَّةِ وَالْعِدَى

سَلِ الدَّهْرَ هَلْ أَعْفَى مِنَ الْمَوْتِ شَائِبًا ** غَدَاةَ أَدَارَ الْكَأْسَ أَمْ رَدَّ أَمْرَدَا

آخر:
إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ ** وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فأَنْتَ غَرِيبُ

وَإِنْ امْرأً قَدْ سَارَ خَمْسِينَ حَجَّةً ** إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ

آخر:
وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً ** فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ

آخر:
قِفْ بِالْمَقَابِرِ وَاذْكُرْ إِنْ وَقَفْتَ بِهَا ** للهِ دُرُّكَ مَاذَا تَسْتُرُ الْحُفَرُ

فَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مَوْعِظَةٌ ** وَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مُعْتَبَرُ

كَانُوا مُلُوكًا تُوَارِيهِمْ قُصُورُهُمْ ** دَهْرًا فَوَارَتْهُمُ مِنْ بَعْدِهَا الْحُفَرُ

اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
وَمِمَّا يسلِي ويسهل المصائب أن يعلم الْعَبْد أنه لولا ما قدره الحكيم العليم على عباده من محن الدُّنْيَا ومصائبها لأصاب الإِنْسَان من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقَسْوَة الْقَلْب ما هُوَ سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أن يتفقده فِي الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تَكُون حمية لَهُ من هَذِهِ الأدوية، وتَكُون حفظًا لصحة عبوديته، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلى بنعائمه كما قِيْل:
قَدْ يَنْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ ** وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ

آخر:
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ حِدَّةٍ ** وَحَسْيُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا

وَلَنْ يَلْبَثِ الْعَصْرَ إِنْ يَوْمًا وَلَيْلَةً ** إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا

آخر:
يَا سَائِلِي عَنْ حَالَتِي ** خُذْ شَرْحَهَا مُلَخَّصَا

قَدْ صِرْتُ بَعْدَ قُوَّةٍ ** تَقُصُّ أَصْلادَ الْحَصَا

أَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ ** أَجْوَدُ مَا فِيهَا الْعَصَا

آخر:
قَدْ أَمْشِي عَلَى ثِنْتَيْنِ مُعْتَدِلاً ** فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْْرَى مِنَ الشَّجَر

آخر:
إِذَا اشْتَدَّتِ الْبَلْوَى تُخَفَّفُ بِالرِّضَا ** عَنْ اللهِ قَدْ فَازَ الرَّضِيُّ الْمُرَاقِبُ

وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيَّةٍ ** عَلَى النَّاسِ تَخْفَى وَالْبَلايَا مَوَاهِبُ

فلولا أَنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا فدى الأَرْض. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، فَإِنَّ من شيم النُّفُوس إِذَا حصل لها صحة وفراغ وأمر ونهي وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وظلمت وسعت فِي الأَرْض فسادًا كما قِيْل:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ** ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ

ومِمَّا يسلي ويسهل المصائب ويكون سببًا للصبر على المصيبة أن يعلم الإِنْسَان أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، فتزيد المصيبة وأن الجزع يشمت الْعَدُوّ ويسؤ الصديق، وينهك الجسم، ويسر شيطانه ويضعف النفس، وقَدْ يحبط الْعَمَل، وَإِذَا صبر واحتسب أخزى الشيطان وأرضى الرب، وسر الصديق، وساء الْعَدُوّ، وَهَذَا من الثبات فِي الأَمْر الديني. وَمِمَّا يسلي ويسهل المصائب أن يوطن الإِنْسَان نَفْسهُ أن كُلّ مصيبة تأتيه هي من عَنْدَ الله وأنها بقضائه وقدره وأنه سُبْحَانَهُ لم يقدرها عَلَيْهِ ليهلكه بها ولا ليعذبه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه.
وَكُلُّ مُصِيبَات أَتَتْنِي فَإِنَّهَا ** سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةُ الْخَطْب

فإِن وفق للرضا وَالشُّكْر فقَدْ أفلح، وإن تسخط ولم يرض فقَدْ خاب وخسر. قَالَ أبو الفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء. الأول: أن يعلم بأن الدُّنْيَا دار ابَتلاء وكرب لا يرجى منه راحة فِي الدُّنْيَا مهما طال العمر ومهما اجتمَعَ للإنسان فيها من أسباب الغنى والثروة وسواء فِي ذَلِكَ الصعاليك والمماليك والملوك فلَقَدْ أودع الله فِي كُلّ نفس ما شغلها.
ولو أن الإِنْسَان عرف قدر الدُّنْيَا وما طبعت عَلَيْهِ من الكدر والانكاد والمصائب والأحزان وعرف أن ما فيها محض خداع وسراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حَتَّى إِذَا جاءه لم يجده شيئًا واستعان بما وهبه الله من نور الدين وقصر أمله لما آثرت فيه المصائب بإذن الله لأن قوة الإِيمَان بِاللهِ وقضائه وقدره يثمران الهدى وَالطُّمَأْنِينَة والرضي بما قسم وقدر.
الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث: أن يقدر وجود ما هُوَ أكثر من تلك المصيبة.
الرابع: النظر فِي حال من ابتلي بمثل هَذَا البَلاء فَإِنَّ التأسي راحة عظيمة يخفف الحزن أَوْ يزيله بالكلية.
قَالَتْ الخنساء:
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ** عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ** أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي

آخر:
حَاسِبْ زَمَانَكَ فِي حَالِي تَصَرُّفِهِ ** تَجِدْهُ أَعْطَاكَ أَضْعَافَ الَّذِي سَلَبَا

نَفْسِي الَّتِي تَمْلِكُ الأَشْيَاءِ ذَاهِبَةً ** فَكَيْفَ أَبْكِي عَلَى شَيْء إِذَا ذَهَبَا

آخر:
لا تَعْتِبْ الدَّهْرَ فِي خَطْبٍ رَمَاكَ بِهِ ** إِذَا اسْتَرَدَّ فَقِدْمًا طَالَ مَا وَهَبَا

وَرَأْسُ مَالِكَ وَهِيَ الرَّوُحُ إِنْ سَلِمَتْ ** لا تَأْسَفَنَّ لِشَيْءٍ بَعْدَهَا ذَهَبَا

آخر:
وَلَوْلا الأَسَى مَا عِشْتَ فِي النَّاسِ سَاعَةً ** وَلَكِنْ مَتَى نَادَيْتُ جَاوَبَنِي مِثْلِي

الخامس: مِمَّا يهون المصائب ويخففها ويبعث الإِنْسَان على حمد الله وشكره وينفي هموم الدُّنْيَا وغمومها النظر والتفكر والاعتبار فيمن هم أعظم مصيبة منك وانظر حالتك بعد زيارتك للمقبرة، وانظر فيمن قبر ومن سيقبر وحالتك بعد ما تمر بالسجن وتَرَى المعذبين فيه بأنواع الْعَذَاب كما قَالَ بَعْضُهُمْ واصفا للسجن ببغداد:
مَحَلُّ بِهِ تَهْفُو الْقُلُوبُ مِن الأَسَى ** فَإِنْ زُرْتَهُ فَارْبُطْ عَلَى الْقَلْبِ بَالْيَد

وانظر حالتك إِذَا دخلت المستشفيات ورَأَيْت الباكين والَّذِي يئن والَّذِي تحت العملية لقطع عضو أَوْ نحوه، وسائر أنواع البلايا تجدك إن كنت ممن وفقه الله مكثرًا لحمد الله وشكره حيث عَافَاكَ مِمَّا تَرَى وتسمَعَ.
وَكَمْ من إنسان أتى لعلاج بسيط فَلَمَّا رأى ما فِي الإسعاف، ومن تحت العمليات ومن يئن ومن يجر ليغسل ومن قَدْ مَاتَ، ومن يعمل لكسوره الجبس، خَرَجَ يحمد الله ورأى أنه ما فيه شَيْء يوجب العلاج.
السادس: رجَاءَ الخلف إن كَانَ من مضى يصح عَنْهُ الخلف كالولد والزوجة قِيْل للقمان: ماتت زوجتك. قَالَ: تجدد فراشي. وقال الشاعر:
هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلا وَصْلُ غَانِيَةٍ ** فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا خَلَفُ

آخر:
قَدْ نَرْكَبُ الْكُرْه أَحْيَانًا فَيُفرِجُهُ ** رَبٌّ نرجِّيهِ فِي الضَّرَاء وَسَرَّائي

السابع: طلب الأجر بالصبر فِي فضائله وثواب الصابرين وسرورهم فِي صبرهم فَإِنَّ ترقى إِلَى مقام الرِّضَا فهو الغاية. انتهى كلامه بتصرف.
ومِمَّا يسلى ويسهل المصائب ويجلب الصبر بإذن الله أن يعلم أن تشديد البَلاء يخص الأخيار، ولهَذَا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النَّاس أشد بَلاء؟
قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس عَلَى قَدْرِ دينهم فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاءه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصبه البَلاء حَتَّى يمشى على الأَرْض ما عَلَيْهِ خطيئة». رَوَاهُ ابن حبان، ومنها أن يعلم أنه مملوك لله ولَيْسَ للملوك فِي نَفْسهُ شَيْء، ومنها أن يعلم أن هَذَا الواقع وقع برضى السيد فيرضى بما رَضِيَ به سيده ومولاه وَهُوَ الله جَلَّ وَعَلا رضينا به ربًا وبالإسلام دينا وبمُحَمَّدٍ رسولاً.
قَالَ بَعْضهمْ:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ ** وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرَ مُخَلَّدِ

فَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا ** فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيّ مُحَمَّدِ

آخر:
لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا الأَمْرُ ضِقْتَ به ** ذَرْعاً ونَمْ مُسْتَريحاً خَالِي الْبَالِ

مَا بَيْنَ رَقْدَةِ عَيْن وانتبَاهَتِهَا ** يُقَلَّبُ الدَّهْرُ مِنْ حَالٍ إِلى حَال

ومن فَوَائِد المصائب والصبر عَلَيْهَا ما أجراه الله على الإِنْسَان مِمَّا يكرهه ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره ويستفيده من استحكام الرأي والعقل بالتجارب ببَلاء دهره فيقوى عقله ويحصف رأيه بأذن الله ويكمل بأدنى شدته ورخائه ويتعظ بحالتي عفوه وبلائه.
إِنِّي أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ ضَيَّقَةٌ ** وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الضُّرُّ بِالْعَجَبِ

صَبْرًا عَلَى شِدَّةِ آلامِ إِنَّ لَهَا ** عُقْبَى وَمَا الصَّبْرُ إِلا عِنْدَ ذِي الْحَسَبِ

سَيَفْتَحُ اللهُ عَنْ قُرْبٍ بِنَافِعَةٍ ** فِيهَا لِمِثْلِكِ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَب

وأقل ما يؤتاه المُؤْمِن فِي المصائب الصبر الَّذِي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إِلَى نعمة بما يستفيد منه الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.
وقَدْ يبتلي الله المُؤْمِن ويمتحن صبره فتعطيه قوة إيمانه من الرجَاءَ ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حَتَّى تغلبها وقَدْ يأنس بالمصيبة لعظم رجائه وصبره وذا وإن كَانَ نادرًا فهو واقع حاصل.
قَالَ بَعْضهمْ:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ** وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ

آخر:
وَوَسَّعَ صَدْرِي للأَذَى كَثْرَةَ الأَذَى ** وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي

ومنها أن يختبر أمور زمانه وينتبه على إصلاح شأنه فلا يغتر برخاء ولا يطمَعَ فِي استواء ولا يؤمل بقاء الدُّنْيَا على حالة فَإِنَّ من عرف الدُّنْيَا وخبر أحوالها هان عَلَيْهِ بؤسها ونعيمها، ولولا ما قدره الله من الحوادث والنوائب لم يعرف صبر الكرام ولا جزع للئام.
فإذا ظفر المصاب بأحد هَذِهِ الأسباب تخففت بإذن الله عَنْهُ أحزانه، وتسهلت عَلَيْهِ أشجانه فصار سريع النسيان للمصائب، قليل الجزع حسن الصبر والتجمل عَنْدَ المصائب.
شِعْرًا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا:
سَلامٌ عَلَى دَارِ الْغُرُورِ فَإِنَّهَا ** مُنَغَّصَّةٌ لَذَّاتُهَا بِالْفَجَائِعِ

فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ سَاعَةً ** فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِع

آخر:
وَمَا الْمَوْتُ إِلا رِحْلَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا ** مِن الْمَنْزِلِ الْفَانِي إِلَى الْمَنْزِلِ الْبَاقِي

آخر:
رَأَيْت بَني الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا ** تَرَحَّلَ وَفْدٌ حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدُ

وَكُلِّ يَحُث السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا ** فَيَمْضِي بِذَا نَعْشٌ وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ

آخر:
وَكُلِّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ مُتِّعَا مَعَا ** مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ

آخر:
فَلا تَجْزَ عَنْ لِلْبَيْنِ كُلُّ جَمَاعَةٍ ** وَرَبِّكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا التَّفَرُّقُ

وَخُذْ بِالتَّعَزِّي كُلَّ مَا أَنْتَ لابِسُ ** جَدِيدًا عَلَى الأَيَّامِ يَبْلَى وَيَخْلَقُ

فَصَبْرُ الْفَتَى عَمَّا تَوَلَّى فَفَاتَهُ ** مِنْ الأَمْرِ أَوْلَى بِالسَّدَادِ وَأَوْفَقُ

وَإِنَّكَ بِالإِشْفَاقِ لا تَدْفَعُ الرَّدَى ** وَلا الْخَيْرُ مَجْلُوبٌ فَمَا لَكَ تُشْفِقُ

كَأَنْ لَمْ يَرُعْكَ الدَّهْرُ أَوْ أَنْتَ آمِنٌ ** لأَحْدَاثِهِ فِيمَا يُغَادِي وَيَطْرُقُ

إخواني أين الأمم الماضية، أين القرون الخالية أين من نصبت على مفارقهم التيجان، أين الَّذِينَ قهروا الأبطال والشجعان، أين الَّذِينَ دانَتْ لَهُمْ المشارق والمغارب، أين الَّذِينَ تمتعوا باللذات من المطاعم والمشارب، أين الَّذِينَ اغتروا بالأجناد والسُّلْطَان.
أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الأسرة والولايات، أين الَّذِينَ خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الَّذِينَ قادوا العساكر، أين الَّذِينَ عمروا القصور الشامخات والفلل الفسيحات، أين الَّذِينَ غرسوا النخيل والأشجار المثمرات.
أين الَّذِينَ ملؤوا ما بين الخافقين فخرًا وعزًا، أين الَّذِينَ فرشوا القصور خزَّا وقَزًّا، أفناهم الله مفنِي الأمم، وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة المساكن، والقصور، وأسكنهم فِي ضيق اللحود وتحت الجنادل والصخور.
قَدْ خلت من كثرتهم أماكنهم ولم ينفعهم ما جمعوا من الحطام، ولا أغنى عنهم ما كسبوا من حلال أَوْ حرام أسلمهم الأحبة والأَوْلِيَاء، وهجرهم الإِخْوَان والأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء.
مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ ** فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ

يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى ** أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ

فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ ** وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كُثْرِهِ

عَمَّ الْبَلاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ ** يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِه

وَالْجِنُّ مِثْلُ الإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا ** حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ

فَإِذَا الْمَرِيدُ أَتَى لِيَخْطِفَ خَطْفَةً ** جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ

وَنَبِيُّ صِدْقٍ لا يَزَالُ مُكَذِّبًا ** يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ

وَمُحَقِّقٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ** ضِدٍّ يُوَاجِهُهُ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ

وَالْعَالِمْ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازَعًا ** بِالْمُشْكِلاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ

وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلا يَرَى ** أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ

وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ ** يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ

أَوْ مَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ ** رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِ

فَيَسُّرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ ** هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ

وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفِكِّرٌ ** مِمَّا يُلاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ

وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَة الرَّ ** جُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ

وَتَرَى الْقَرِين مُضْمِّرًا لِقَرِينِهِ ** حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ

وَلَرُبَّ طَالِبُ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ ** جَاءَتْهُ أَحْلامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ

وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجْ إِلَى ** غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغْرِهِ

وَلَقَدْ حَسَدْتَ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا ** فَوَجَدْتُ مِنْهَا مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ

وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ ** وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ

وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ ** فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارهِ قَبْرِهِ

كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةَ بِعَيْشِهِ ** مَا زَالَ وَهُوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ

تَاللهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ** أَلْفًا مِن الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ

مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ** مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ

لا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ** كَلا وَلا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ

مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي ** بِنُزُولِ أَوِّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ

كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى ** صَبْرًا عَلَى حُلْو الْقَضَاءِ وَمُرِّه

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.